فصل: الآية رقم ‏(‏80 ‏:‏ 84‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة الحجر

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 3‏)‏

‏{‏ الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ‏.‏ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ‏.‏ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ‏}‏

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربما يود الذين كفروا‏}‏ إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين، ونقل السدي عن ابن عباس، أن كفار قريش لما عرضوا على النار تمنوا أن لو كانوا مسلمين، وقيل‏:‏ المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمناً، وقيل‏:‏ هذا إخبار عن يوم القيامة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين‏}‏، وقال بعضهم‏:‏ يحبس اللّه أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار، قال‏:‏ فيقول لهم المشركون‏:‏ ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا، قال‏:‏ فيغضب اللّه لهم بفضل رحمته، فيخرجهم، فذلك حين يقول‏:‏ ‏{‏ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين‏}‏ ‏"‏روى هذا القول ابن جرير عن ابن عباس وأنَس بن مالك وقال‏:‏ كانا يتأولان الآية‏:‏ ‏{‏ربما يود الذين كفروا‏}‏ بذلك التأويل‏"‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يقول أهل النار للموحدين‏:‏ ما أغنى عنكم إيمانكم‏؟‏ فإذا قالوا ذلك قال اللّه‏:‏ أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فعند ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين‏}‏، وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة، فقال الحافظ الطبراني، عن أنَس بن مالك رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن ناساً من أهل لا إله إلا اللّه يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى‏:‏ ما أغنى عنكم قولكم‏:‏ ‏{‏لا إله إلا اللّه‏}‏ وأنتم معنا في النار‏؟‏ فيغضب اللّه لهم، فيخرجهم فيلقيهم في نهر الحياة، فيبرؤون من حرقهم، كما يبرأ القمر من خسوفه، ويدخلون الجنة ويسمون فيها الجهنميين‏)‏

الحديث الثاني ‏:‏ عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه

عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتمع أهل النار ومعهم من شاء اللّه من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين‏:‏ ألم تكونوا مسلمين‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قالوا‏:‏ فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا في النار‏؟‏ قالوا‏:‏ كانت لنا ذنوباً فأخذنا بها، فسمع اللّه ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا‏:‏ يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا - قال‏:‏ ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم‏:‏ ‏{‏الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين * ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين‏}‏‏)‏ ‏"‏أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذرهم يأكلوا ويتمتعوا‏}‏ تهديد شديد لهم ووعيد أكيد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل تمتعوا فإن

مصيركم إلى النار‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون‏}‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ويلههم الأمل‏}‏ أي عن التوبة والإنابة ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ أي عاقبة أمرهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏4 ‏:‏ 5‏)‏

‏{‏ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ‏.‏ ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ‏}‏

يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكهم عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم، وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم، إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك‏.‏

 الآية رقم (6 : 9) ‏

{‏ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ‏.‏ لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ‏.‏ ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ‏.‏ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ‏}‏

يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم في قولهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏ أي الذي تدعي ذلك، ‏{‏إنك لمجنون‏}‏ أي في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا، ‏{‏لو ما‏}‏ أي هلا، ‏{‏تأتينا بالملائكة‏}‏ أي يشهدون لك بصحة ما جئت به كما قال فرعون‏:‏ ‏{‏فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائمة مقترنين‏}‏، {‏وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا‏}‏، وكذا قال في هذه الآية ‏{‏ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين‏}‏‏.‏ وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ما ننزل الملائكة إلا بالحق‏}‏‏:‏ بالرسالة والعذاب، ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن وهو الحافظ له من التغيير والتبديل‏.‏  ">الآية رقم ‏(‏10 ‏:‏ 13‏)‏">

الآية رقم ‏(‏10 ‏:‏ 13‏)‏

‏{‏ ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ‏.‏ وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ‏.‏ كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ‏.‏ لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ‏}‏

يقول تعالى مسلياً لرسوله صلى اللّه عليه وسلم في تكذيب من كذبه من كفار قريش، إنه أرسل من قبله من الأمم الماضية، وإنه ما أتى أمة من رسول إلا كذبوه واستهزؤوا به، ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى، قال أنَس والحسن البصري‏:‏ ‏{‏كذلك نسلكه في قلوب المجرمين‏}‏‏:‏ يعني الشرك، وقوله‏:‏ ‏{‏قد خلت سنة الأولين‏}‏‏:‏ أي قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار، وكيف أنجى اللّه الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏14 ‏:‏ 15‏)‏

‏{‏ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ‏.‏ لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ‏}‏

يخبر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق أنه لو فتح لهم باباً من السماء فجعلوا يصعدون فيه لما صدقوا بذلك بل قالوا‏:‏ ‏{‏إنما سكرت أبصارنا‏}‏ قال مجاهد والضحاك‏:‏ سدت أبصارنا، وقال قتادة عن ابن عباس أخذت أبصارنا‏.‏ وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ شبّه علينا وإنما سحرنا، وقال الكلبي‏:‏ عميت أبصارنا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏16 ‏:‏ 20‏)‏

‏{‏ ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين ‏.‏ وحفظناها من كل شيطان رجيم ‏.‏ إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ‏.‏ والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ‏.‏ وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ‏}‏

يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها، وما زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات، لمن

تأمل وكرر النظر فيما يرى من العجائب والآيات الباهرات، ما يحار نظره فيه، ولهذا

قال مجاهد وقتادة‏:‏ البروج ههنا هي الكواكب وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك الذي جعل في السماء بروجا‏}‏ الآية، ومنهم من قال‏:‏ البروج هي منازل الشمس والقمر، ثم ذكر تعالى خلقه الأرض ومده إياها وتوسيعها وبسطها، وما جعل فيها من الجبال الرواسي والأودية والأراضي والرمال، وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏من كل شيء موزون‏}‏‏:‏ أي معلوم وكذلك قال عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة ، ومنهم من يقول‏:‏ مقدر بقدر، وقال ابن زيد‏:‏ من

كل شيء يوزن ويقدر بقدر، وقوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا لكم فيها معايش‏}‏ المعايش وهي جمع معيشة، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن لستم له برازقين‏}‏، قال مجاهد‏:‏ هي الدواب والأنعام‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ هم العبيد والإماء والدواب والأنعام، والقصد أنه تعالى يمتن عليهم بما يسّر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها، والأنعام التي يأكلونها، والعبيد والإماء التي يستخدمونها، ورزقهم على خالقهم لا عليهم، فلهم هم المنفعة، والرزق على اللّه تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏21 ‏:‏ 25‏)‏

‏{‏ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ‏.‏ وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ‏.‏ وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ‏.‏ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ‏.‏ وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ‏}‏

يخبر تعالى أنه مالك كل شيء، وأن كل شيء سهل عليه يسير لديه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف ‏{‏وما ننزله إلا بقدر معلوم‏}‏ كما يشاء وكما يريد، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده، لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة‏.‏ قال ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وما ننزله إلا بقدر معلوم‏}‏ ما عام بأكثر مطراً من عام، ولا أقل، ولكنه يمطر قوم، ويحرم آخرون بما كان في البحر، قال‏:‏ وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم، يحصون كل قطرة حيث تقع وما تنبت ‏"‏رواه ابن جرير عن عبد اللّه بن مسعود‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏ أي تلقح السحاب فتدر ماء وتلقح الشجر، فتفتح عن أوراقها وأكمامها، وذكرها بصيغة الجمع ليكون منها الإنتاج بخلاف الريح العقيم، فإنه أفردها ووصفها بالعقيم، وهو عدم الإنتاج، وقال أعمش، عن عبد اللّه بن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏ قال‏:‏ ترسل الريح فتحمل الماء من السماء، ثم تمر مر السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة وكذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي والضحّاك ، وقال الضحاك‏:‏ يبعثها اللّه على السحاب

فتلقحه فيمتلئ ماء، وقال عبيد بن عمير الليثي‏:‏ يبعث اللّه المبشرة فتقم الأرض قماً، ثم يبعث اللّه المؤلفة فتؤلف السحاب، ثم يبعث اللّه اللواقح فتلقح الشجر، ثم تلا‏:‏ ‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأسقيناكموه‏}‏ أي أنزلناه لكم عذباً يمكنكم أن تشربوا منه ‏{‏لو نشاء جعلناه أجاجا‏}‏ كما نبّه على ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما أنتم له بخازنين‏}‏، قال سفيان الثوري‏:‏ بمانعين؛ ويحتمل أن المراد‏:‏ وما أنتم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معيناً وينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذباً وحفظه في العيون والآبار والأنهار، ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن نحيي ونميت‏}‏ إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته، وأنه هو الذي أحيى الخلق من العدم، ثم يميتهم، ثم يبعثهم ليوم الجمع، وأخبر تعالى بأنه

يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون‏.‏ ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم

فقال‏:‏ ‏{‏ولقد علمنا المستقدمين منكم‏}‏ الآية‏.‏ قال ابن عباس رضي اللّه عنهما‏:‏ المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام، والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة، وهو اختيار ابن جرير رحمه اللّه‏.‏ وقال ابن جرير، عن مروان بن الحكم أنه قال‏:‏ كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين‏}‏ ‏"‏قال ابن كثير‏:‏ ورد فيه حديث غريب جداً رواه أصحاب السنن وفيه نكارة شديدة وهو أنه كانت تصلي خلف النبي صلى اللّه عليه وسلم امرأة حسناء، وكان بعض المسلمين إذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم فنزلت الآية‏.‏ وقد نبه رحمه اللّه إلى نكارة هذه الرواية وضعفها‏"‏‏.‏

وروى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر عن أبيه أنه سمع عون بن عبد اللّه يذكر محمد بن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين‏}‏ وأنها في صفوف الصلاة، فقال محمد بن كعب‏:‏ ليس هكذا ‏{‏ولقد علمنا المستقدمين منكم‏}‏‏:‏ الميت والمقتول، ‏{‏والمستأخرين‏}‏ من يخلق بعد، ‏{‏وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم‏}‏، فقال عون بن عبد اللّه‏:‏ وفقك اللّه وجزاك خيراً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏26 ‏:‏ 27‏)‏

‏{‏ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون ‏.‏ والجان خلقناه من قبل من نار السموم ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ المراد بالصلصال التراب اليابس، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلق الإنسان من

صلصال كالفخار‏}‏‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ الصلصال المنتن، وتفسير الآية بالآية أولى، وقوله‏:‏ ‏{‏من حمأ مسنون‏}‏ أي الصلصال من حمأ وهو الطين، والمسنون الأملس، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏

هو التراب الرطب، وعن ابن عباس ومجاهد أن الحمأ المسنون هو المنتن، وقيل‏:‏ المراد بالمسنون ههنا المصبوب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والجان خلقناه من قبل‏}‏ أي من قبل الإنسان، ‏{‏من نار السموم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هي السموم التي تقتل، وعن ابن عباس‏:‏ أن الجان خلق من لهب النار، وقد ورد في الصحيح‏:‏ ‏(‏خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم‏)‏ ‏"‏رواه مسلم وأحمد عن عائشة‏"‏، والمقصود من الآية التنبيه على شرف آدم عليه السلام، وطيب عنصره وطهارة محتده‏.‏

 الآية رقم ‏(‏28 ‏:‏ 33‏)‏

‏{‏ وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون ‏.‏ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ‏.‏ فسجد الملائكة كلهم أجمعون ‏.‏ إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين ‏.‏ قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين ‏.‏ قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون ‏}‏

يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته، قبل خلقه له وتشريفه إياه بأمر الملائكة بالسجود له، ويذكر تخلف إبليس عدوه عن السجود له حسداً وكفراً، وعناداً واستكباراً وافتخاراً بالباطل، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏34 ‏:‏ 38‏)‏

‏{‏ قال فاخرج منها فإنك رجيم ‏.‏ وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ‏.‏ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ‏.‏ قال فإنك من المنظرين ‏.‏ إلى يوم الوقت المعلوم ‏}‏

يذكر تعالى أنه أمر إبليس بالخروج من المنزلة التي كان فيها من الملأ الأعلى، وأنه رجيم أي مرجوم، وأنه قد أتبعه لعنة لا تزال متصلة به لاحقة له متواترة عليه إلى يوم القيامة، وعن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ لما لعن اللّه إبليس تغيرت صورته عن صور الملائكة، ورن رنة، فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير‏"‏‏.‏ وأنه لما تحقق الغضب الذي لا مرد له سأل من تمام حسده لآدم وذريته النظرة إلى يوم القيامة، وهو يوم البعث، وأنه أجيب إلى ذلك استدراجاً له وإمهالاً، فلما تحقق النظرة قبحه اللّه قال ما قصّه اللّه تعالى‏:‏

 الآية رقم ‏(‏39 ‏:‏ 44‏)

‏{‏ قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ‏.‏ إلا عبادك منهم المخلصين ‏.‏ قال هذا صراط علي مستقيم ‏.‏ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ‏.‏ إن جهنم لموعدهم أجمعين ‏.‏ لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب‏:‏ ‏{‏بما أغويتني‏}‏ أي بسبب ما أغويتني وأضللتني ‏{‏لأزينن لهم‏}‏ أي لذرية آدم عليه السلام، ‏{‏في الأرض‏}‏ أي أحبب إليهم المعاصي وأرغبهم فيها، ‏{‏ولأغوينهم أجمعين‏}‏ أي كما أغويتني وقدّرت علي ذلك، ‏{‏إلا عبادك منهم المخلصين‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا‏}‏، ‏{‏قال‏}‏ اللّه تعالى له متهدداً ومتوعداً، ‏{‏هذا صراط علي مستقيم‏}‏ أي مرجعكم إليَّ فأجازيكم بأعمالكم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وقيل‏:‏ طريق الحق مرجعها إلى اللّه تعالى وإليه تنتهي قاله مجاهد والحسن وقتادة ، كقوله‏:‏ ‏{‏وعلى اللّه قصد السبيل‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏ أي الذين قدرت لهم الهداية فلا سبيل لك عليهم، ولا وصول لك إليهم ‏{‏إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ استثناء منقطع، ‏{‏وإن جهنم لموعدهم أجمعين‏}‏ أي جهنم موعد جميع من اتبع إبليس كما قال عن القرآن، ‏{‏ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده‏}‏، ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب ‏"‏في اللباب‏:‏ أخرج الثعلبي‏:‏ أن سلمان الفارسي لما سمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جهنم لموعدهم أجمعين‏}‏ فرّ ثلاثة أيام هارباً من الخوف لا يعقل، فجيء به إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏

يا رسول اللّه، أنزلت هذه الآية‏؟‏ فوالذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏إن المتقين في جنات وعيون‏}‏‏"‏‏{‏لكل باب منهم جزء مقسوم‏}‏ أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه أجارنا اللّه منها، وكل يدخل من باب بحسب عمله ويستقر في درك بقدر عمله، وعن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ إن أبواب جهنم هكذا أطباقٌ بعضها فوق بعض، وعن هبيرة بن أبي مريم عن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول ثم الثاني ثم الثالث، حتى تمتلئ كلها‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ سبعة أبواب سبعة أطباق، وقال ابن جريج‏:‏ سبعة أبواب أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية روى الضحّاك عن ابن عباس نحوه، وكذلك روي عن الأعمش ، وقال قتادة ‏{‏لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم‏}‏‏:‏ هي واللّه منازل بأعمالهم، وقال الترمذي، عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي - أو قال على أمة محمد - ‏)‏ ‏"‏رواه الترمذي وقال‏:‏ لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول‏"‏‏.‏ وقال ابن أبي حاتم، عن سمرة بن جندب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏لكل باب منهم جزء مقسوم‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه، وإن منهم من تأخذه النار إلى حِجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه، منازلهم بأعمالهم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏لكل باب منهم جزء مقسوم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏45 ‏:‏ 50‏)‏

‏{‏ إن المتقين في جنات وعيون ‏.‏ادخلوها بسلام آمنين ‏.‏ ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ‏.‏ لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ‏.‏ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ‏.‏ وأن عذابي هو العذاب الأليم ‏}‏

لما ذكر تعالى حال أهل النار، عطف على ذكر أهل الجنة وأنهم في جنات وعيون‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ادخلوها بسلام‏}‏ أي سالمين من الآفات مسلم عليكم، ‏{‏آمنين‏}‏ أي من كل خوف وفزع، ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين‏}‏‏.‏ عن أبي أمامة قال‏:‏ لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع اللّه ما في صدره من غل حتى ينزع منه مثل السبع الضاري، وهذا موافق لما في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة‏)‏ وقال ابن جرير‏:‏ دخل عمران بن طلحة على عليّ رضي اللّه عنه بعد ما فرغ من أصحاب الجمل فرحب به وقال‏:‏ إني لأرجو أن يجعلني اللّه وإياك من الذين قال اللّه‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين‏}‏‏.‏ وعن أبي حبيبة مولى لطلحة قال‏:‏ دخل عمران بن طلحة على عليّ رضي اللّه عنه بعد ما فرغ من أصحاب الجمل فرحب به وقال‏:‏ إني لأرجو أن يجعلني اللّه وإياك من الذين قال اللّه‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين‏}‏ قال‏:‏ ورجلان جالسان إلى ناحية البساط، فقالا‏:‏ اللّه أعدل من ذلك تقتلهم بالأمس وتكونون إخواناً، فقال علي رضي اللّه عنه‏:‏ قُوما أبعد أرض وأسحقها، فمن هم إذاً إن لم أكن أنا وطلحة‏؟‏ وفي رواية‏:‏ فقام رجل من همدان فقال‏:‏ اللّه أعدل من ذلك يا أمير المؤمنين، قال‏:‏ فصاح به علي صيحة، فظننت أن القصر تدهده لها، ثم قال‏:‏ إذا لم نكن نحن فمن هم‏؟‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ جاء ابن جرموز ، قاتل الزبير، يستأذن على علي رضي اللّه عنه فحجبه طويلاً، ثم أذن له، فقال له‏:‏ أما أهل البلاء فتجفوهم، فقال عليّ‏:‏ بفيك التراب، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال اللّه‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين‏}‏‏.‏ وقال الحسن البصري، قال عليّ‏:‏ فينا واللّه أهل بدر نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين‏}‏‏.‏ وقال الثوري في قوله‏:‏ ‏{‏إخوانا على سرر متقابلين‏}‏ قال، هم عشرة‏:‏ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنهم أجمعين، وقوله‏:‏ ‏{‏متقابلين‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا ينظر بعضهم في قفا بعض، وفيه حديث مرفوع‏.‏ قال ابن أبي حاتم، عن زيد بن أبي أوفى قال‏:‏ خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إخوانا على سرر متقابلين‏}‏ في اللّه ينظر بعضهم إلى بعض ‏"‏في اللباب‏:‏ أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن الحسن‏:‏ أن هذه الآية‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ نزلت في أبي بكر، وعمر، قيل‏:‏ وأي غل‏؟‏ قال‏:‏ غل الجاهلية، إن بني تميم وبني عدي وبني هاشم كانوا أعداء، فلما أسلموا تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يمسهم فيها نصب‏}‏ يعني المشقة والأذى، كما جاء في الصحيحين‏:‏ ‏(‏إن اللّه أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما هم منها بمخرجين‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين فيها لا يبغون عنها حولا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم‏}‏ أي أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عذاب أليم، وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف، وذكر في  سبب نزولها ما رواه ابن جرير عن ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ طلع علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال‏:‏ ‏(‏لا أراكم تضحكون‏)‏ ثم أدبر، حتى إذا كان عند الحجر رجع علينا القهقرى فقال‏:‏ ‏(‏إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا محمد إن اللّه يقول‏:‏ لم تقنط عبادي‏؟‏ ‏{‏نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم‏}‏‏)‏ وقال قتادة‏:‏ بلغنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو يعلم العبد قدر عفو اللّه لما تورع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب اللّه لبخع نفسه‏)‏

 الآية رقم ‏(‏51 ‏:‏ 56‏)‏

‏{‏ ونبئهم عن ضيف إبراهيم ‏.‏ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون ‏.‏ قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ‏.‏ قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ‏.‏ قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين ‏.‏ قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ وخبرهم يا محمد عن قصة ‏{‏ضيف إبراهيم‏}‏، والضيف يطلق على الواحد والجمع كالزور والسفر، وكيف ‏{‏دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون‏}‏ أي خائفون، وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة وهو العجل السمين الحنيذ، ‏{‏قالوا لا توجل‏}‏ أي لا تخف، ‏{‏وبشروه بغلام عليم‏}‏ أي إسحاق عليه السلام كما تقدم في سورة هود، ثم ‏{‏قال‏}‏ متعجباً من كبره وكبر زوجته ومتحققاً للوعد ‏{‏أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون‏}‏، فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقاً وبشارة بعد بشارة، ‏{‏قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين‏}‏، فأجابهم بأنه ليس يقنط ولكن يرجو من اللّه الولد، وإن كان قد كبر وأسنت امرأته، فإنه يعلم من قدرة اللّه ورحمته ما هو أبلغ من ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏57 ‏:‏ 60‏)

‏{‏ قال فما خطبكم أيها المرسلون ‏.‏ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ‏.‏ إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين ‏.‏ إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ‏}‏

يقول تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى، إنه شرع يسألهم عما جاءوا له فقالوا‏:‏ ‏{‏إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين‏}‏ يعنون قوم لوط، وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من الهالكين، ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين‏}‏ أي الباقين المهلكين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏61 ‏:‏ 64‏)‏

‏{‏ فلما جاء آل لوط المرسلون ‏.‏ قال إنكم قوم منكرون ‏.‏ قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ‏.‏ وأتيناك بالحق وإنا لصادقون ‏}‏

يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه فدخلوا عليه داره قال‏:‏ ‏{‏إنكم قوم

منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون‏}‏ يعنون بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم وحلوله بساحتهم، ‏{‏وأتيناك بالحق‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننزل الملائكة إلا بالحق‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإنا لصادقون‏}‏ تأكيد لخبرهم إياه بما أخبروه به من نجاته وإهلاك قومه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏65 ‏:‏ 66‏)‏

‏{‏ فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون ‏.‏ وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين‏}‏

يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يسري بأهله بعد مضي جانب من الليل، وأن يكون لوط عليه السلام يمشي وراءهم ليكون أحفظ لهم؛ وهكذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمشي في الغزو يزجي الضعيف ويحمل المنقطع، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يلتفت منكم أحد‏}‏ أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم وذروهم فيما حل بهم من العذاب والنكال، ‏{‏وامضوا حيث تؤمرون‏}‏ كأنه كان معهم من يهديهم السبيل، ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر‏}‏ أي تقدمنا إليه في هذا ‏{‏أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين‏}‏ أي وقت الصباح، كقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏67 ‏:‏ 72‏)‏

‏{‏ وجاء أهل المدينة يستبشرون ‏.‏ قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ‏.‏ واتقوا الله ولا تخزون ‏.‏ قالوا أولم ننهك عن العالمين ‏.‏ قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين ‏.‏ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ‏}‏

يخبر تعالى عن مجيء قوم لوط لما علموا بأضيافه وصباحة وجوههم، وأنهم جاءوا مستبشرين بهم فرحين ‏{‏قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون * واتقوا اللّه ولا تخزون‏}‏ وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم أنهم رسل اللّه، كما قال في سورة هود، وأما ههنا فتقدم ذكر أنهم رسل اللّه وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم، ولكن الواو لا تقتضي الترتيب، ولا سيما إذا دل دليل على خلافه، فقالوا له مجيبين‏:‏ ‏{‏أولم ننهك عن العالمين‏}‏ أي أوما نهيناك أن تضيف أحداً‏؟‏ فأرشدهم إلى نسائهم وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة، هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم وما قد أحاط بهم من البلاء، وماذا يصبحهم من العذاب المستقر‏.‏ ولهذا قال تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون‏}‏، أقسم تعالى بحياة نبيّه صلوات اللّه وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما خلق اللّه وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى اللّه عليه وسلم، وما سمعت اللّه أقسم بحياة أحد غيره، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون‏}‏ يقول‏:‏ وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا ‏{‏إنهم لفي سكرتهم يعمهون‏}‏ ‏"‏رواه ابن جرير‏"‏، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏في سكرتهم‏}‏ أي ضلالتهم، ‏{‏يعمهون‏}‏ أي يلعبون، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لعمرك‏}‏ لعيشك، ‏{‏إنهم لفي سكرتهم يعمهون‏}‏ قال‏:‏ يترددون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏73 ‏:‏ 77‏)‏

‏{‏ فأخذتهم الصيحة مشرقين ‏.‏ فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ‏.‏ إن في ذلك لآيات للمتوسمين ‏.‏ وإنها لبسبيل مقيم ‏.‏ إن في ذلك لآية للمؤمنين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذتهم الصيحة‏}‏ وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها، وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء، ثم قلبها، وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم‏.‏ وقد تقدم الكلام على السجيل في هود بما فيه كفاية، وقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات للمتوسمين‏}‏ أي إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته، كما قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏للمتوسمين‏}‏ قال‏:‏ المتفرسين‏.‏ وعن ابن عباس والضحّاك‏:‏ للناظرين، وقال قتادة‏:‏ للمعتبرين، وقال مالك عن بعض أهل المدينة‏:‏ ‏{‏للمتوسمين‏}‏ للمتأملين‏.‏ وقال ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد مرفوعاً قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اتقوا فِراسةَ المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه‏)‏، ثم قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات للمتوسمين‏}‏ ‏"‏رواه الترمذي وابن جرير، وقال الترمذي‏:‏ لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏"‏‏.‏ وفي رواية عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور اللّه‏)‏ ‏"‏رواه ابن جرير‏"‏‏.‏ وروى الحافظ البزار عن أنس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن للّه عباداً يعرفون الناس بالتوسم‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإنها لبسبيل مقيم‏}‏ أي وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب والقذف للحجارة حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة، بطريق مهيع مسالكه مستعمرة إلى اليوم، كقوله‏:‏ ‏{‏وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون‏}‏، وقال مجاهد والضحّاك‏:‏ ‏{‏وإنها لبسبيل مقيم‏}‏ قال‏:‏ معلم، وقال قتادة‏:‏ بطريق واضح‏.‏ وقال قتادة أيضاً‏:‏ بصقع من الأرض واحد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية للمؤمنين‏}‏ أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار، وإنجائنا لوطاً وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين باللّه ورسله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏78 ‏:‏ 79‏)‏

‏{‏ وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين ‏.‏ فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين ‏}‏

أصحاب الأيكة هم قوم شعيب، قال الضحاك‏:‏ الأيكة‏:‏ الشجر الملتف، وكان ظلمهم بشركهم باللّه وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان، فانتقم اللّه منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلمة، وقد كانوا قريباً من قوم لوط بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنهما لبإمام مبين‏}‏ أي طريق مبين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ طريق ظاهر، ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في إنذاره إياهم‏:‏ ‏{‏وما قوم لوط منكم ببعيد‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏80 ‏:‏ 84‏)‏

‏{‏ ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين ‏.‏ وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين ‏.‏ وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ‏.‏ فأخذتهم الصيحة مصبحين ‏.‏ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ‏}‏

أصحاب الحجر هم ثمود الذين كذبوا صالحاً نبيّهم عليه السلام، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين، ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين، وذكر تعالى أنه أتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح، كالناقة التي أخرجها اللّه لهم بدعاء صالح من صخرة صماء، وكانت تسرح في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم معلوم، فلما عتوا وعقروها قال لهم‏:‏ ‏{‏تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى‏}‏، وذكر تعالى أنهم ‏{‏كانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين‏}‏ أي من غير خوف ولا احتياج إليها بل أشراً وبطراً وعبثاً، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر الذي مر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو ذاهب إلى تبوك، فقنع رأسه وأسرع دابته، وقال لأصحابه‏:‏ ‏(‏لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم‏)‏ ‏"‏الحديث في الصحاح والسنن‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم الصيحة مصبحين‏}‏ أي وقت الصباح من اليوم الرابع، ‏{‏فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون‏}‏ أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه، فما دفعت عنهم تلك الأموال ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏85 ‏:‏ 86‏)‏

‏{‏ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ‏.‏ إن ربك هو الخلاق العليم ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية‏}‏ أي بالعدل ‏{‏ليجزي الذين أساءوا بما عملوا‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار‏}‏، ثم أخبر نبيّه بقيام الساعة وأنها كائنة لا محالة، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به، كقوله‏:‏ ‏{‏فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون‏}‏، وقال مجاهد وقتادة‏:‏ كان هذا قبل القتال ‏"‏قال ابن كثير‏:‏ وهو كما قالا، فإن الآية مكية والقتال إنما شرع بعد الهجرة‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك هو الخلاق العليم‏}‏ تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء ‏{‏العليم‏}‏ بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض كقوله‏:‏ ‏{‏أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العظيم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏87 ‏:‏ 88‏)‏

‏{‏ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ‏.‏ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين ‏}‏

يقول تعالى لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ كما آتيناك القرآن العظيم فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه، فلا تغبطهم بما هم فيه، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزناً عليهم في تكذيبهم لك ومخالفتهم دينك، ‏{‏واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏}‏ أي ألن لهم جانبك، كقوله‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم‏}‏، وقد اختلف في السبع المثاني ما هي‏؟‏ فقال ابن مسعود وابن عباس‏:‏ هي السبع الطوال، يعنون ‏(‏البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس‏)‏ وهو قول ابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير والضحّاك وغيرهم ، وقال سعيد‏:‏ بين فيهن الفرائض والحدود والقصاص والأحكام، وقال ابن عباس‏:‏ بيَّن الأمثال والخبر والعبر، ولم يعطهن أحد إلا النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأعطي موسى منهن ثنتين، والقول الثاني ‏:‏ أنها الفاتحة وهي سبع آيات‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصكم اللّه بها، وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب وأنهن يثنين في كل ركعة مكتوبة أو تطوع، اختاره ابن جرير، واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد أورد البخاري رحمه اللّه ههنا حديثين‏:‏

أحدهما عن أبي سعيد بن المعلى قال‏:‏ مرّ بي النبي صلى اللّه عليه وسلم وأنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت فأتيته، فقال‏:‏ ‏(‏ما منعك أن تأتيني‏؟‏‏)‏ فقلت‏:‏ كنت أصلي، فقال‏:‏ ‏(‏ألم يقل اللّه‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم‏}‏ ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد‏)‏‏؟‏ فذهب النبي صلى اللّه عليه وسلم ليخرج فذكرت فقال‏:‏ ‏(‏‏{‏الحمد للّه رب العالمين‏}‏ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته‏)

الثاني عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم‏)‏، فهذا نص في الفاتحة هي السبع المثاني والقرآن العظيم، ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطوال بذلك لما فيها من هذه الصفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضاً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللّه نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني‏}‏ فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه وهو القرآن العظيم أيضاً، كما أنه عليه الصلاة والسلام لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأشار إلى مسجده والآية نزلت في مسجد قباء، فلا تنافي، فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة واللّه أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم‏}‏ أي استغن بما آتاك اللّه من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية‏.‏ ومن ههنا ذهب ابن عيينة إلى تفسير الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ليس منا من لم يتغن بالقرآن‏)‏ إلى أنه يستغنى به عما عداه، وهو تفسير صحيح ولكن ليس هو المقصود من الحديث كما تقدم في أول التفسير، وقال ابن أبي حاتم عن أبي رافع صاحب النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ضاف النبي صلى اللّه عليه وسلم ضيف، ولم يكن عند النبي صلى اللّه عليه وسلم شيء يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهود‏:‏ ‏(‏يقول لك محمد رسول اللّه أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب‏)‏، قال‏:‏ لا، إلا برهنٍ، فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته فقال‏:‏ ‏(‏أما واللّه إني لأمين من في السماء، وأمين من في الأرض، ولئن أسلفني أو باعني لأودين إليه‏)‏، فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية ‏{‏لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا‏}‏ إلى آخر الآية، كأنه يعزيه عن الدنيا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لا تمدن عينيك‏}‏ قال‏:‏ نهي الرجل أن يتمنى ما لصاحبه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏إلى ما متعنا به أزواجا منهم‏}‏ هم الأغنياء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏89 ‏:‏ 93‏)‏

‏{‏ وقل إني أنا النذير المبين ‏.‏كما أنزلنا على المقتسمين ‏.‏ الذين جعلوا القرآن عضين ‏.‏ فوربك لنسألنهم أجمعين ‏.‏ عما كانوا يعملون ‏}‏

يأمر تعالى نبيّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقول للناس‏:‏ ‏{‏إني أنا النذير المبين‏}‏ البين النذارة، نذير للناس من عذاب أليم، كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها، وما أنزل اللّه عليهم من العذاب والانتقام، وقوله‏:‏ ‏{‏المقتسمين‏}‏ أي المتحالفين، أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذبيهم وأذاهم، كقوله تعالى إخباراً عن قوم صالح إنهم‏:‏ ‏{‏قالوا تقاسموا باللّه لنبيتنه وأهله‏}‏ الآية، أي نقتلهم ليلاً، قال مجاهد‏:‏ تقاسموا وتحالفوا ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث اللّه من يموت‏}‏، ‏{‏أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم اللّه برحمة‏}‏ فكأنهم لا يكذبون بشيء من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين‏.‏ قال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا باللّه لنبيتنه وأهله، وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما مثلي ومثل ما بعثني اللّه به كمثل رجل أتى قومه فقال‏:‏ يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به من الحق‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الذين جعلوا القرآن عضين‏}‏ أي جزأوا كتبهم المنزلة عليهم، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، قال البخاري عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏جعلوا القرآن عضين‏}‏ قال‏:‏ هم أهل الكتاب جزأوه فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه وروي عن مجاهد والحسن والضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير نحو ذلك ‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ العضه، السحر بلسان قريش، تقول للساحرة‏:‏ إنها العاضهة، وقال مجاهد‏:‏ عضوه أعضاء قالوا‏:‏ سحر، وقالوا‏:‏ كهانة، وقالوا‏:‏ أساطير الأولين، وقال عطاء‏:‏ قال بعضهم‏:‏ ساحر، وقالوا‏:‏ مجنون، وقالوا‏:‏ كاهن، فذلك العضين‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن ابن عباس‏:‏ إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا شرف فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، فقالوا‏:‏ وأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به، قال‏:‏ بل أنتم قولوا لأسمع، قالوا‏:‏ نقول كاهن، قال‏:‏ ما هو بكاهن، قالوا‏:‏ فنقول مجنون، قال‏:‏ ما هو بمجنون، قالوا‏:‏ فنقول شاعر، قال‏:‏ ما هو بشاعر، قالوا‏:‏ فنقول ساحر، قال‏:‏ ما هو بساحر، قالوا‏:‏ فماذا تقول‏؟‏ قال‏:‏ واللّه إن لقوله لحلاوة فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا‏:‏ هو ساحر، فتفرقوا عنه بذلك، وأنزل اللّه فيهم‏:‏ ‏{‏الذين جعلوا القرآن عضين‏}‏ أصنافاً‏:‏ ‏{‏فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏}‏ أولئك النفر الذي قالوا لرسول اللّه‏.‏ وقال ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏}‏ قال‏:‏ عن ‏{‏لا إله إلا اللّه‏}‏ ‏"‏ورد فيه حديث مرفوع رواه الترمذي عن أنَس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏فوربك لنسألهم أجمعين‏}‏ قال‏:‏ عن ‏{‏لا إله إلا اللّه‏}‏‏"‏، وقال ابن مسعود‏:‏ والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو اللّه به يوم القيامة، فيقول‏:‏ ابن آدم ماذا غرك مني بي‏؟‏ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت‏؟‏ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين‏؟‏ وقال أبو جعفر، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏}‏ قال‏:‏ يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة‏:‏ عما كانوا يعبدون، وعماذا أجابوا المرسلين، وقال ابن عيينة‏:‏ عن عملك وعن مالك، وقال ابن أبي حاتم، عن معاذ بن جبل قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه فلا ألفينك يوم القيامة وأحد غيرك أسعد بما آتاك اللّه منك‏)‏ وقال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان‏}‏ قال‏:‏ لا يسألهم هل عملتم كذا‏؟‏ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لم عملتم كذا وكذا‏؟‏

 الآية رقم ‏(‏94 ‏:‏ 99‏)‏

‏{‏ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ‏.‏ إنا كفيناك المستهزئين ‏.‏ الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ‏.‏ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ‏.‏فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ‏.‏ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ‏}‏

يقول تعالى آمراً رسوله صلى اللّه عليه وسلم بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به، وهو مواجهة المشركين به، كما قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏‏:‏ أي أمضه؛ وفي رواية افعل ما تؤمر ‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو الجهر بالقرآن في الصلاة‏.‏ وعن عبد اللّه بن مسعود‏:‏ ما زال النبي صلى اللّه عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ فخرج هو وأصحابه، وقوله‏:‏ ‏{‏وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ أي بلغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات اللّه ‏{‏ودوا لو تدهن فيدهنون‏}‏ ولا تخفهم، فإن اللّه كافيك إياهم، وحافظك منهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس‏}‏‏.‏ وعن أنَس مرَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فغمزه بعضهم، فجاء جبريل - أحسبه قال‏:‏ فغمزهم - فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا ‏"‏أخرجه الحافظ البزار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏‏"‏‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كان عظماء المستهزئين خمسة نفر، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم، من بني أسد بن عبد العزى أبو زمعة كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم أعم بصره وأثكله ولده‏)‏، ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوث ، ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة ، ومن بني سهم العاص بن وائل ، ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة ‏.‏ فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الاستهزاء أنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين - إلى قوله - فسوف يعلمون‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يجعلون مع اللّه إلها آخر فسوف يعلمون‏}‏ تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع اللّه معبوداً آخر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين‏}‏ أي وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض، فلا يضيقنك ذلك، ولا يثنينّك عن إبلاغك رسالة اللّه وتوكل عليه، فإنه كافيك وناصرك عليهم، فاشتغل بذكر اللّه وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين‏}‏، ولهذا كان رسول اللّه إذا حزبه أمر صلى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واعبد ربك حتى يأتيك اليقين‏}‏، قال البخاري عن سالم بن عبد اللّه ‏{‏واعبد ربك حتى يأتيك اليقين‏}‏ قال‏:‏ الموت وهكذا روي عن مجاهد والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد وغيرهم أنهم فسروا اليقين بالموت ‏.‏ والدليل على ذلك قوله تعالى إخباراً عن أهل النار أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين‏}‏‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير‏)‏ قاله صلى اللّه عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، فقالت أم العلاء‏:‏ رحمة اللّه عليك، فشهادتي عليك لقد أكرمك اللّه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏وما يدرك أن اللّه أكرمه‏)‏ الحديث ‏.‏ ويستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله‏:‏ ‏{‏واعبد ربك حتى يأتيك اليقين‏}‏ على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتاً فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب‏)‏، ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا - هم وأصحابهم - أعلم الناس باللّه وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا أكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة؛ وإنما المراد باليقين ههنا الموت، كما قدمناه، وللّه الحمد والمنة‏.‏